يعتقد كثير من أساتذة القانون العرب أن القانون الدولي مجرد ثقافة عامة أو، في أحسن الأحوال، سياسة وليس قانونا ملزما كفروع القانون المحلي. هذه النظرة، في الحقيقة، بعيدة عن الواقع. ويبدو أنها جاءتنا من بعض المفكرين الذين عاشوا في القرن السابع عشر، رغم تطور القانون الدولي على مدار القرنين الماضيين. المؤسف أن هذه النظرة أثرت سلبا على وضع وأهمية القانوني الدولي في فلسطين بسبب تكرار ما نسمعه دون مراجعة. في الحقيقة، كنت أنا أعتقد هكذا اعتقاد عندما كنت في السنة الأولى في الجامعة، ولا زلت أعاني من هذه النظرة من قبل بعض طلبتي بسبب النظرة التقليدية السائدة لدى كثير من الحقوقيين المتأثرين بتلك الرؤية التقليدية.
غير أن الصحيح هو أن القانون الدولي قانون واسع وله مؤسسات ومحاكم وملايين الموظفين في آلاف المنظمات والخبراء والقضاة والمحامين والمستشارين والعلماء. بل إنه يمثل أكبر فروع القانون على الإطلاق. قد لا أبالغ إن قلت إنه لو وضع القانون الدولي في كفة وبقية فروع القانوني في كفة أخرى لرجحت الكفة الأولى، خاصة في عصر العولمة الذي نعيشه خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فيما يلي بعض الأمثلة.
ينظم القانون الدولي ملايين رحلات الطائرات كل يوم. أكثر من200 مليون مهاجر وعشرات الملايين من اللاجئين حول العالم يحكمهم القانون الدولي. البترول الذي تسير به سياراتنا ونضيء بكهربائه بيوتنا والملابس التي نلبسها والطعام الذي نأكله إنما تُنظَّم حركته عبر العالم وفقا للقانون الدولي. يحكم القانون الدولي الآلاف من السفارات والقنصليات والمفاوضات والمنظمات التي لا يمكن أن توجد أو تدار دون ذلك القانون. بل إن قرابة 80% من الكرة الأرضية، أي البحار، إنما يتم رسم حدودها وتوزيع ثرواتها وحركات السفن فيها وفقا للقانون الدولي. كما أن كل حدود الدول وجنسيات سكانها تحتكم للقانون الدولي.
هذا كله فضلا عن قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني والقانون الجنائي الدولي والتحكيم وجرائم السايبر والقرصنة البحرية والصفقات التجارية الإلكترونية وتسليم المجرمين الفارين والمباريات الرياضية العالمية وقانوني البيئة والعمل الدوليين، وحتى رحلات الفضاء وسباق التسلح؛ فهذه كلها قضايا أُسِّست لها الآلاف من المنظمات وملايين الموظفين وتُرصد لها ترليونات الدولارات حول العالم. هذه العلاقات كلها تعمل وفقا للقانون الدولي ويديرها في الغالب أشخاص مختصون في هذا المجال.
أما على الصعيد الفلسطيني، فكيف يمكن الحديث عن دولة فلسطين والاعتراف عالميا بحقوق الشعب الفلسطيني دون مرجعية القانون الدولي؟ كيف يمكن القول بأن الاحتلال غير شرعي دون القانون الدولي؟ هل يكون للأسرى حقوق دون القانون الدولي؟ هل يمكن التحدث عن حق العودة والاستيطان كجريمة حرب ومصادرة الأراضي وهدم البيوت دون القانون؟ كيف يمكن لفلسطين تحريك قضايا وكسبها أمام المحكمة الجنائية الدولية دون هذا القانون؟ وكيف استطاعت فلسطين تحريك دعوى ضد الولايات المتحدة في محكمة العدل الدولية بخصوص نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس دون القانون الدولي؟ هل يمكن البتّ بعدم شرعية الجدار أمام العالم فتوى محكمة العدل الدولية؟ هل يمكن إثبات أو مناقشة أن إسرائيل تتبنى نظام فصل عنصري والمطالبة بمحاسبتها على تلك العنصرية دون المعايير القانونية العالمية؟ بل وفقا لماذا انضمت فلسطين لعشرات الاتفاقيات والمنظمات الدولية خلال السنوات العشرة الماضية إن لم يكن وفقاً للقانون الدولي وقواعده؟
على عكس الفلسطينيين، ينشط الإسرائيليون في مجال القانون الدولي أضعافا مضاعفة. من واقع تجربتي الشخصية وحضوري لعشرات المؤتمرات في مختلف دول العالم، ألاحظ، في معظم المؤتمرات التي أحضرها، بالكاد حضور فلسطيني أو اثنين، مقابل العديد من الإسرائيليين. هذا ليس مستغرباً. فمعظم الجامعات الإسرائيلية تمنح الدكتوراة لمئات الطلبة سنويا في مختلف مجالات القانون الدولي. كما أن العديد من كليات الحقوق في الجامعات الغربية يديرها أساتذة قانون دولي إسرائيليون، أو صهاينة.
في كل الجامعات الفلسطينية، فإن أعلى أستاذ قانون من كل التخصصات الحقوقية لا تتجاوز اقتباساته 500 على “جوجل سكولر”، وأعلى أبحاث لأستاذ من جامعة فلسطينية منشورة ضمن مجلات مصنفة ضمن قاعدة “سكوبس” العالمية لا تبلغ أكثر من 15
ومن اللافت أن معظم الجامعات الإسرائيلية تصدر مجلات عالمية محكمة متخصصة في القانون الدولي وتعتبر مرجعية للمحاكم والمنظمات الدولية وللباحثين والمدرسين حول العالم، ويتولى رئاسات أو إدارات تحرير معظم المجلات العالمية أساتذة إسرائيليون. كما أن معظم كبار الأستاذة الذين لديهم آلاف الاقتباسات وعشرات الأبحاث ضمن سكوبس هم من الإسرائليين، أو من المؤيدين لإسرائيل، أو على الأقل من المحايدين فيما يتعلق بجرائم الاحتلال.
في المقابل، في كل الجامعات الفلسطينية، فإن أعلى أستاذ قانون من كل التخصصات الحقوقية لا تتجاوز اقتباساته 500 على “جوجل سكولر“، وأعلى أبحاث لأستاذ من جامعة فلسطينية منشورة ضمن مجلات مصنفة ضمن قاعدة “سكوبس” العالمية لا تبلغ أكثر من 15! أقولها، وبكل مرارة: أستاذة القانون والمحامين والقانونيين الفلسطينيين، مثل معظم العرب، في سبات عميق في مجال القانون الدولي؛ بينما يتطور العالم في هذا المجال بسرعة البرق. فمعظم مجلات سكوبس القانونية وعددها 801 (2021)، هي في تخصص القانون الدولي بشكل أو بآخر. للأسف، لا يوجد حتى واحدة منها باللغة العربية أو تصدر عن جامعة عربية أو دار نشر في عالمنا العربي!
لذلك، لا غرابة إذا لم نجد إلا القليل من الفلسطينيين أو العرب من يستطيع الكتابة والدفاع عن حقوق اللاجئين أو الأسرى أو الترافع أمام المحكمة الجنائية الدولية أو غيرها من القضايا القانونية التي تحكم أو تتعلق بالقضية الفلسطينية. بل إن أكثر القانونيين الذين ألفوا ودافعوا عن القضية الفلسطينية من الناحية الأكاديمية هم من غير الفلسطينيين، من أمثال جون كويغلي وريتشارد فولك وجون دوغارد.
مع قلة الاهتمام الأكاديمي بالقانون الدولي، فلسطينياً وعربياً، فإن الساحة متروكة للرواية المضادة، دون وجود ردود قوية مقنعة مع استثناء جهد منظمات المجتمع المدني والعمل الرسمي الفلسطيني، وهما متواضعان عموما ويقودهما في الغالب سياسيون ونشطاء غير متخصصين في القانون أو قانونيين غير مختصين بالقانون الدولي. فالعمل القانوني الدولي الفلسطيني، حسبما هو ملاحظ، منحصر بالعادة في الإطار الدبلوماسي والإعلامي، وتطبعه عموما (مع بعض الاستثناءات المحدودة التي تقودها الجمعيات الحقوقية غير الحكومية ضمن مشاريع ممولة أجنبيا) العواطف الجياشة والخطابات الثورية والشعارات.
على الصعيد العربي، ينفر أساتذة القانون العرب من القانون الدولي، إما لعدم اقتناعهم بفرص العمل التي يوفرها لخريجيه وإما لأنه قانون يحتاج إلى جهد مضاعف بالمقارنة مع التخصص في القوانين المحلية. فهو يتطلب لغة إنجليزية وقدرة على الإطلاع على مختلف الأنظمة العالمية والمحاكم الدولية وقواعد البيانات والمجلات العالمية. كما أن أن دور الحكومات العربية وتقصيرها في هذا المجال لا يُنكر. فكثير من هذه الحكومات تخشى أصلاُ من القانون الدولي كونه يعرقل سياساتها التي يمكن أن تمضي دون مساءلة. فالقانون الدولي يضع عليها التزامات في مجال حقوق اللاجئين والأجانب والمرأة ومكافحة الفساد والشفافية والانتخابات ومنع التعذيب والاعتقال التعسفي ومنع الإعدام وحرية الرأي ويفرض عليها إجراء الانتخابات ومكافحة الفساد، فيما إن تلك الحكومات غير مستعدة لهذه الالتزامات.
كثير من الحكومات تخشى أصلاُ من القانون الدولي كونه يعرقل سياساتها التي يمكن أن تمضي دون مساءلة
لهذا يفضل كثير من الأكاديميين القانونيين النأي بأنفسهم عن التخصص في القانون الدولي طلبا للسلامة وتجنباً للمواضيع “الحساسة” التي قد تصنف على أنها “سياسية”، وابتعاداً عن فرضية أن ذلك قد يؤدي للتصادم مع الأنظمة الحاكمة التي تحتكر العلاقات الدولية، بما فيها القانون الدولي.
أما بالنسبة لمخالفات القانون الدولي في مختلف دول العالم، كاحتلال إسرائيل لفلسطين أو احتلال أمريكا للعراق أو تهجير الروهنجيا من ميانمار أو هجمات داعش اللاإنسانية أو قتل المعارضين وتعذيبهم وسجنهم أو التمييز في توزيع لقاحات كورونا أو مهاجمة اللاجئين وهضم حقوق المرأة، فهذه كلها أمثلة على مخالفات القانون الدولي وليست مشكلة القانون ذاته. على العكس، ما يجعلنا نستطيع وصف هذه الأفعال باعتبارها مخالفات أو جرائم وتسليط الضوء عليها في الصحافة العالمية والكتابات الأكاديمية وممارسة ضغط لتغييرها هو وجود القانون الدولي. وإلا لما كان لدينا أساس يمكن الاستناد إليه للقول بعدم قانونية مثل هذه الممارسات، ولما اندفعت الحكومات إلى محاولات تخفيف أو تبرير أو إنكار انتهاكاتها للقانون الدولي.
فالمشكلة هي في ممارسات الدول وليس في القانون الدولي. وهذه المشكلة موجودة في كل فروع القانون. فمخالفات السير لا تعني عدم وجود قانون المرور. وفساد القضاة وبطء المحاكمات لا تعني عدم وجود التشريعات القضائية. غياب الانتخابات الرئاسية والتشريعية والنقابية لا تعني عدم وجود قوانين الانتخاب. البناء دون ترخيص لا يعني غياب قانون البلديات. الواسطة والمحسوبية والاختلاس والرشوة لا تعني عدم وجود تشريعات مكافحة الفساد. قتل النساء بحجة “الشرف” والانتقام والجلوة العشائرية لا تعني عدم وجود قانون العقوبات. وعدم توزيع الميراث للأخوات والبنات لا يعني غياب قانون الأحوال الشخصية.
لذلك تبقى المخالفات، سواء للقانون المحلي أو الدولي، وسواء من قبل الأفراد أو الحكومات، مخالفات للقانون وليست مشكلة في القانون. هذه المخالفات يجب أن تحلل في سياقاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والتعليمية والتاريخية. وهذا لا يعني أنه من غير الضروري السعي دوما لإصلاح القانون سواء كان محليا أو دوليا. وهو عين الحاجة إلى الاهتمام بالقانون الدولي فلسطينيا وعربياً.